مدينة تسبح فوق البحر

حين تحطّ بك الطائرة في « البندقية » , تشعر بأنك في حلم .. في مكان خارج الخارطة , قد سقطت فجأة في مدينة تجري من تحتها الأنهار , فتنسى حقائبك على ظهر الطائرة , وتفقد جواز سفرك للوهلة الأولى , إنك الآن في حضرة ملكة البحار . فالناس لا

يرون عادة من البحر سوى سطحه , أما هنا في « فينيسيا »» فترى وجه البحر وأحشائه معاً , فالبحر هنا يرتدي الثياب الداخلية في حجرة نومه « فينيس » . ترقب القمر عارياً وقد شبك ذراعي سحابتين يتأمل مفاتن المدينة العائمة , وكأنه يمتطي جندولاً فينيسياًً ويبحر في زرقة السماء ! .‏

.. تقصد « ايكسسبيزثيون بينالي فينيسيا » , وهو أكبر معرض للرسم في العالم , فثمة جناح لكل بلد ينشر فيه لوحات فنانيه على حبال الغسيل الأبيض , فتحار أين تضع عينيك على لوحة أجمل من أن يتسع لها حائط , أو على تمثال يكاد ينطق ليبادلك الحديث , تقرر بينك وبين نفسك أن تقطع علاقتك بالمحيط الخارجي في التو للتفرغ للسير داخل الألوان ! . ما تكاد تفرغ من تعليق اللوحات على جدار ذاكرتك , حتى يخطفك مهرجان « ردسنتور » الفينسيي الشهير , حيث المعروضات والجدرانيات التي توشك أن تقنعك بأن عينيها تراك فعلاًً , فيخيل إليك أن حقيبتك قد ازداد وزنها بثقل اللآلىء وأن رأسك قد أصبح بحجم مدينة !! .‏

.. بشق النفس تنتزع نفسك من إطار اللوحات لتلقي ببصرك على صفحة الماء وأنت تركب الجندول الفينسي فتلمح ابتسامة مشوشة في لجة الماء , وكأنها بقايا لوحة سوريالية ألقاها رسام بائس من نافذة منزله بعد أن عاندته الألوان ! . هنا كاد المرابي اليهودي الكريه « شايلوك » أن يقتص جوراً من « انطونيو » بطل تاجر البندقية » رائعة شكسبير - برطل من اللحم البشري ! .‏

.. يمضي بك القارب عبر « الجراند كانال » الطريق الرئيسي في « فينسيا » وكأنك تسير في موكب ملكي معلق بين السماء والماء , تنقل الطرف بين شرفات القصور المنسكبة بحياء إلى الماء كامرأة فات موعدها .. وبين النوافذ المتفتحة بأزهار الأوركيد والأدوليز , يعبر بك القارب كفاتنة لعوب جسر « الريالتو » أقدم جسر في المدينة العائمة , وكأنك تعبر من الحلم إلى اليقظة ! . هذا السوار الحجري المحيط بالموج كشريان يربط نصفي قلب مشطور , يمد يديه العتيقتين على ضفتي الماء حيث ضحكات النساء الجميلات تعطر ثوب الليل . تهبط في مكان غير بعيد إلى ميدان « سان ماركو » أكبر وأشهر ساحات « فينيسيا » حيث حشود السواح يلتقطون بعدساتهم أبراج وبوابات كنيسة القديس « ماركو » والتي يغلب اللون الأحمر المرجاني على لباسها وكأنها ترتدي حلياًً من أصداف البحر! . ماذا بوسعك أن تفعل .. وأنت في بلاط ملكة البحار « فينيس » سوى أن تحتسي ضوء القمر وتسكر بمفاتنها الساحرة .. حتى مطلع الفجر ! . فجأة يخطف أنظارك آلاف الحمامات وهي تحلق فوق رأسك كغيمة بيضاء , لا تلبث أن تحط على الأرض بأقدام واثقة من نفسها , لتلتقط فتات الخبز من أكف السائحين , وكأنها تنشر مظلة السلام الأبيض بأجنحتها بين شتى أعراق البشر ! . تجلس أخيراًً في مقهى « فلوريان » الشهير في « الدوان تاون » الذي يتوسط « سنترالمدينة » لتلتقط أنفاسك , بينما تجول عيناك بين المفاتن التي تسكب بسخاء منقطع النظير وقد تحير بصرك على أية حسناء يقع , بينما تقرع أجراس الكنيسة القريبة لتقطع دابر حماقاتك المشبوهة .‏

سلام أخي شكرالك على ما قدمت لنا تقبل تحياتي ومروري